وقوله:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} إلخ، أراد به أنه لا سبب للنهي إلا هذا، ولم يصرِّحْ بأن ذلك نقصٌ أو كمالٌ، كأن الخبيث قال في نفسه: إن حَمَلَهما كلامي على سوء الظنِّ بربهما بأن يقولا: نهانا عن الأكل منها لئلا يحصل لنا ما هو خيرٌ لنا وكمالٌ من الملَكيَّة أو الخلود، فذلك الذي أبغي، وإلا فليس ذلك بمانعهما عن تصديقي؛ إذ لعلَّهما يقولان: لعلَّ ربَّنا كره لنا أن نكون مَلَكين؛ لأن في ذلك نقصًا؛ فإن لآدم مزيَّةً على الملائكة بدليل السجود، ولأننا إذا صرنا مَلَكين حُرِمنا عن التمتُّع بنعيم الجنَّة؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولعلَّ الخلود يورثنا نقصًا لا نعلمه الآن، ولكن مهما يكن من نقصٍ فإننا نرضى به لأنفسنا على أن يحصل لنا الخلود.
هذا ما لعلَّ الخبيث قاله في نفسه، فأمَّا هما فإنهما لم يسيئا الظنَّ بربهما قطعًا، كيف ولم يجوِّزا صدق إبليس حتى قاسمهما بربهما تعالى، وإنما جوَّزا صدقه لاحتمال نقصٍ في الملَكيَّة والخلود لأجله نهاهما ربُّهما عن الشجرة رحمةً بهما، ولكن غلبتهما شهوة الخلود، فلم يباليا بالنقص، فطلبا بأكل الشجرة طولَ البقاء من الجهة العاديَّة التي قرَّرناها أوَّلًا، ولم يطلبا المَلَكِيَّةَ، ولكن لعلَّهما قالا: إن فُرِضَ صدقُ إبليس في أن الأكل /من الشجرة ربَّما أورث المَلَكِيَّة، فإنما يكون ذلك بفعل الله تعالى، ولسنا نقصد ذلك ولا نطلبه، على أنه إن كان ذلك فقد حصل لنا الخلود أيضًا.
هذا، وقد يُقال: إن العادة في الجنَّة أوسع منها في الدنيا، فلعلَّهما قد شاهدا من تأثير المطعومات في الجنَّة ما يجعل سببيَّة الشجرة لأن يكون آكلُها ملَكًا من قبيل الأسباب العاديَّة هنالك.