وحسبك أن مثل هذا يوجد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فضلًا عمن بعدهم؛ فإن كل مسألة دينية اختلف فيها فالحق فيها واحد وبقية الأقوال باطلة، ولكن لا يطلق على وجه من وجوه الاختلاف:«بدعة» حتى تقوم عليه الحجة الواضحة، ولا يطلق على صاحبها:«مبتدع» حتى تقوم عليه الحجة الواضحة.
نعم، جرت عادة السلف أنهم إذا رأوا رجلًا ذهب مذهبًا يعتقدون هم أنه بدعة ولذلك الرجل شبهة استولت عليه ــ بحيث لم يستطيعوا اقتلاعها من قلبه، ولكنها عندهم شبهة باطلة ــ أن يطلقوا عليه مبتدع، وهو عندهم كالواسطة بين المعذور المأجور وبين المعاند الذي سبق أنه يكفر. والغالب أنهم لم يشدِّدوا عليه إلا خوفًا على المسلمين من الاغترار بقوله والافتراقِ في الدين، ولذلك يشتدُّ نكيرهم عليه إذا كان داعية، أي يُظْهِرُ قولَه ويجادل عنه ويناضل ويرغِّب الناس فيه.
واعلم أن الأفهام تختلف وتأثير الأدلة والشبهات في النفوس يختلف باختلاف العقول والأهواء وغير ذلك، فكم مِّنْ معنًى هو عند بعض الأئمة حجة قوية، وعند بعضهم شبهة ضعيفة. وحسبك بأن الصحابة وأئمة التابعين اختلفوا في مسائل كثيرة وربما لم يقدر أحدهم على إقناع الآخر، مع أنهم كانوا أبعد الناس عن الهوى وأسرعهم إلى الحق إذا تبيَّن.
أَوَ لم يبلُغْك محاورة أمير المؤمنين علي عليه السلام [٦١٢] مع ابن عباس رضي الله عنهما في متعة النكاح، حتى قال علي لابن عباس:«إنك امرؤ تائه»(١)، ومع ذلك لم يستطع أحدهما إقناع الآخر؟
(١) مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ٤/ ١٣٤، ح ١٤٠٧. [المؤلف]