قلت: كأنه عدل عن ذلك؛ لأنه قد يُفْهم من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:«متعمِّدًا» أنَّ المراد: متعمِّدًا للكذب، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث على إخراج الجاهل والذاهل. وإنما ذكرت أنا هذه الرواية لأني أرى الأَوْلى إبقاء قوله:«متعمِّدًا» على إطلاقها، فيكون المراد: متعمِّدًا للحلف والكذب معًا، والله أعلم.
وذلك كأن يقول: إن كان ذاق ذلك اليوم طعامًا فهو يهودي، يعني نفسه، فإن كان لم يذق طعامًا فليس بكاذب، وإن كان ذاق طعامًا ولكنه نسي فليس بمتعمِّدٍ للكذب، وإن كان ذاق ولم ينس فهو متعمِّدٌ للكذب. ثم إن كان قوله:«فهو يهودي»، كلمةً جرت على لسانه ولم يعقد نيته على قولها فليس بمتعمِّدٍ للحلف بملَّةٍ غير الإسلام، بل هو ذاهل، وإلا فهو متعمِّدٌ. فإذا اجتمع تعمّد الكذب وتعمّد الحلف باليهودية فهو كما قال، وقس على هذا حالَ مَنْ قال: إن كنتُ أملك الآن شيئًا فأنا ... وذكر اليهودية. فأما من يقول: إن سافرت غدًا فأنا ... فالظاهر أنه إن كان حالَ اليمين عازمًا ألَّا يسافر غدًا فهو صادق، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يسافر غدًا فسافر فلم يكن متعمِّدًا للكذب، ما لم يكن سفره غدرًا بأن كان فيه ضرر على المحلوف له, والله أعلم.
فإن قلتَ: فلماذا بنى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قوله: «مَن حلف باللات والعزى» إلخ على علمه أنَّ أحدًا من أصحابه لا يحلف بهما إلَّا ذاهلًا ولم يصنع مثل ذلك في قوله: «مَن حلف بغير ملَّة الإسلام» إلخ؟
قلتُ: لأنَّ أصحابه كانوا [٧٣٥] يعلمون حقَّ العلم أنَّ الحلف باللات والعزى عمدًا كفر، فلم يكن ذلك ليقع منهم. وأما الحلف بغير ملَّة الإسلام كقول القائل: هو يهوديٌّ إن كان فعل كذا، يعني نفسه، فلم يكونوا يعلمون