للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القِبْط وضَعَتْه أمُّه في التابوت لريبةٍ أو غيرها فيَسْلَم، ويحتمل أن يعلم أنه من بني إسرائيل، فَعَلَت به أمُّه ذلك خوفًا عليه من الذبح فيُذْبح، ويحتمل أن يقع في يد فرعون أو شخصٍ من أتباعه فيرحمه، ويحتمل أن تتدافعه الأمواج حتى يموت، فأنتَ ترى أن هذا الفعل كما يحتمل الهلاكَ يحتمل السلامةَ، بخلاف ما لو تركَتْه عندها فإنه لا يحتمل إلا الهلاك. ومع ذلك فهلاكه بعيدًا عنها أهون عليها من ذبحه في حجرها.

والحاصل أن المصلحة تقتضي وضعه في التابوت، فألْهَم الله تعالى أمَّ موسى هذا الفعل، فوجدت في نفسها خاطرًا يرشدها إلى ذلك، وتبيَّنت لها المصلحةُ المعقولةُ ففعلَتْه. وهذا الخاطر هو في الظاهر من جنس الخواطر التي يمكن عروضها لكلِّ أحدٍ. فالإلهام الذي لا نزاع في وجوده هو نحو هذا مما يلتبس بسائر الخواطر.

فمن ادّعى زيادةً على هذا فدعواه مردودة إلا ما كان من قبيل الرؤيا، وقد مرَّ الكلامُ عليها (١). وقد ثبت في «صحيح البخاري» (٢) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يبق من النبوّة إلا المبشِّرات» قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة». وفي «صحيح مسلم» (٣) زيارة أبي بكر وعمر لأمّ أيمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبْكيك ... الحديث إلى أن قالت: ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. وقد مرَّ في هذا


(١) (ص ٣٢٨ وما بعدها).
(٢) (٦٩٩٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) (٢٤٥٤) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.