وبهذا يتبيَّن أنَّ لله الحمدَ على كلِّ شيء، وفي كلِّ حال. وأنَّ المسلم إذا أصابته مصيبة، فقال: الحمد لله على كل حال، فليس ذلك من باب قول العامة:"يدٌ ما تقدِرُ على كسرها قبِّلْها"(١)، وإنما هو من باب العلم أن كل ما يقع فعلى مقتضى حكمة الله تعالى وَقَع، وأنه من تلك الجهة محمودٌ ينبغي حمدُ الله تعالى عليه. وقد قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[الإسراء: ٤٤].
وقال بعضُ السلف في حق الكفار:"إنهم يدخلون النار وحمدُ الله في قلوبهم"، وذلك لأنه انكشف لهم أنَّ دخولهم النار هو الذي تقتضيه الحكمة والعدل المحض. ولولا الطمع في الرحمة وعدم الصبر على الألم لرضُوا بمقامهم في النار.
ولولا انكشافُ الحقيقة لأهل الجنة لما طاب لهم عيش، وأقاربُهم في النار، بل ولا غيرُ أقاربهم؛ فإنَّ نفوسَ أهل الجنة بغاية الطهارة، فما بالهم كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: ٣٤ ــ ٣٦]. إنما ذلك لأنه انكشف لهم حقيقة الأمر، وهي أنَّ تعذيبَ الكفار هو الأمر المطابق للحكمة، الموافق للعدل، الذي تفرح النفوس الطاهرة بوقوعه.
وقد يقع شيء من ذلك في الدنيا، فإنك لو رأيت أخاك وأحبَّ الناس إليك أخذ يتعدَّى على الضعفاء والأرامل والأيتام، وأكثر من ذلك، ولم يُصغِ إلى لوم لائم، حتى تعدَّى على بعض الضعفاء [ل ٥٨/أ] فاغتصبَه حليلتَه،
(١) ورد في "الأمثال المولدة" للخوارزمي (١٢٤) بلفظ: "يدٌ لا يمكنك قطعُها قبِّلْها".