وقضاؤه وقدره من وراء ذلك، فلا منافاة بينه وبين الاختيار والتمكن، خلافًا للجبرية وللقدرية من المعتزلة وغيرهم.
ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، فانحصر كمالهم في طاعته. وعليه قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: ٥٦].
وأُسّ الكمال ورأس العبادة معرفة الحق، فلو جعل سبحانه حجج الحق مكشوفةً لما كان في معرفتها مشقة. فلا تكون عبادة ولا كمالًا. فلم يكن بدّ أن يكون دون حجج الحقّ حجاب، فلا تدرك إلا بكلفة ومشقة.
مثال ذلك: معرفة الله عزَّ وجلَّ. الطريق العام فيها هو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وللآثار أسباب حسية فهي الحجاب. [ص ٤٦] فإذا نظرنا إليها، وعرفنا ما هي عليه من الإتقان، ومطابقة الحكمة، كانت تلك حجة على أن لها خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا.
ثم ننظر، فنجد منها ما هو عارض، يسميه بعضهم اتفاقيًّا، ولكننا إذا أمعنّا النظر وجدناه على وفق العدل والحكمة والإحسان، فتكون هذه حجة.
ومنها: ما يتسلسل، فإذا مشينا مع سلسلته انتهينا إلى حلقة لا نجد بعده حلقة، إلا أن نربطها بإرادة الرب وقدرته، وهذه حجة.
وإن أبينا إلا أن نفرض حلقات أخرى تشبه هذه الحلقات الكونية، فمهما فرضنا لا بد أن تنتهي الحلقات إلى حلقة لا يكون وراءها إلا إرادة الرب وقدرته، وهذه حجة.
فمن كان قلبه عامرًا بحب الحق، فإنه تكفيه حجة من هذه الحجج أو غيرها، يتقبلها بقبول حسن، فيمدّه الله عزَّ وجلَّ باليقين من حيث لا يشعر.