ومن كان دون هذا إلا أنه محب للحق في الجملة، فإنه إذا لم تقنعه الحجة حفظها، وضمّها إلى غيرها، فيستفيد من المجموع اليقين، أو ما يقرب منه، فيقبله، ويكمل الله تعالى له اليقين بفضله.
ومن استحوذ عليه الباطل لا تقنعه الحجة وحدها، فيتشكك فيها، ثم يطرحها نسيًا منسيًّا، فإذا عرضت له الأخرى فكذلك. فإذا حاولت إحدى الحجج أن تغلب هواه، وتضطره إلى الإيمان بوجود الخالق، فزعت نفسه إلى التفكر في الخالق قائلة:[ص ٤٦] وما هو؟ وكيف هو؟ وأين هو؟ فيتخبط في هذا العماء بدون اهتداء بالأدلّاء ــ وهم الأنبياء ــ لسابق سوء ظنه بهم، فلا يحصل إلا على الحيرة.
وربما يكون قد تقدمه من يرى أنه أعلم منه، ولم يؤمن، فيهاب خلافه. أو يكون قد سبق منه ومن الذين ينسبهم إلى العقل والعلم عيب للعامة التي تؤمن بالله عزَّ وجلَّ، واستهزاء منها، وسخرية بها، وحكم عليها بأن أساس جهلها وأوهامها وخرافاتها هو الإيمان، فيأنف أن يعود إلى مساواتها.
وقد تشعر نفسه أنه إذا آمن بالله عزَّ وجلَّ ألجمها وكبحها عن كثير من شهواتها، فهي تعارضه في ذلك، وتغالطه، ولا تألو جهدًا في صرفه عنه إلى أسباب أخرى. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[ص ٤٩](١) وأما قول المعلم: "وسن لنا التشبث بالأسباب"، وقوله:"تربية لأخلاقنا"، فإنه أصل آخر، حاصله: أنه كما جعل الله تعالى الأمور الدنيوية مبنية في الظاهر على الأسباب الحسية، سترًا لحجج الحق كما علمت، فإنه شرع لعباده أن يتشبثوا بالأسباب، وذلك لوجوهٍ:
(١) الصفحتان (٤٧، ٤٨) وأكثر من نصف ص ٤٩ مضروب عليها.