وقد تقدم في فصل (ج) ما روي عن وهب: "كانت الفيلة معهم فشجُع منها فيل فحُصِبَ". وهذا يقتضي أن الفيلة كلها امتنعت عن التقدم إلى مكة إلا واحدًا منها فحصب، وقد تقدم هناك أنها كانت ثلاثة عشر فيلًا. [ص ٥٨] فحبس الفيل على الصفة المذكورة آيةٌ، أقام الله تعالى بها الحجة على أبرهة، تؤكد له حرمة البيت ومكانه من ربه عزَّ وجلَّ. فلو اعتبر بها ورجع بجيشه عن قصد البيت لما أصابهم العذاب، ولكن لما أصرّوا رمتهم الطير، كما بينته القصة والأشعار، من أن الرمي كان بعد حبس الفيل بمهلة. والسورة تدل على ذلك، كما يأتي في تفسيرها إن شاء الله تعالى.
فاتضح بما تقدم أن الرمي لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب، ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، كما تقدم.
فإن قيل: فإن فيه إقامة حجة على من تبلغه القصة، وهو لا يصدق بقدرة الله تعالى، أو بحرمة البيت.
قلت: الحجاب في حق هؤلاء أنهم لم يشاهدوا الواقعة، فيمكنهم التكذيب، وإنكار التواتر، وأن يتأولوا، كما فعل الناس بفلق البحر وغيرها. وقد فعلوا ذلك بهذه الآية نفسها، كما ترى، ويأتي له مزيد.
ولم يكن المقصود مما فعل الله تعالى بأصحاب الفيل إغاثة أهل مكة حتى تستدعي الخارقة تسببًا منهم، وإنما المقصود من ذلك حفظ البيت عن
(١) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين [٦٨٨٠]. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة [١٣٥٥]. [المؤلف].