وفوق هذا فإنه ينبغي أن يفهم أن الله تعالى لم يصرف الشيطان عن إبراهيم حتى دفعه بأقصى ما يمكنه حينئذٍ، وهو الرمي بالحصى، فيستفيد وجوب السعي، وبذل المجهود {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: ٦٠].
ويتأكد ذلك باستحضار أن ما شرع لنا من الرمي بالحصى فيه إشارة إلى وجوب بذل المجهود، مما هو من جنس التسبب، وإن لم يكن ــ بحسب الطبع ــ كافيًا في السببية، على نحو ستر الإناء ولو بعود، والاستتار في الصلاة ولو بخط، على ما تقدم إيضاحه في فصل (ز). والله أعلم.
وأما من يرمي، ولا يعلم مبدأ الرمي وحكمته، فإنه يعتاض بمعنى آخر. وذلك أن الشيطان لا يفتأ يوسوس له قائلًا: ما هذا الجهل؟ وما هذا الحمق؟ تتعبون من المسافات البعيدة، فتجيئون تعملون هذه (١) الأعمال؟ أي فائدة في أن يرمى بحصيات في موضع؟ وكيف يتصور أن يكون نبي صادق النبوة يأمر بمثل هذا؟ وأنى يتوهم أن يكلف الله تبارك وتعالى عباده بهذا العبث .. ؟
فإذا لم يُصْغِ الإنسان إلى هذه الوسوسة ورمى الجمرات كما أمر، كان ذلك مخالفة للشيطان، وطردًا له. وكان في تكرار ذلك ما يقوم مقام العزم على المخالفة للشيطان بقية حياته.
فأما من يتصور أن مبدأ رمي الجمار رمي أهل مكة أصحاب [ص ٨٨] الفيل، فيوشك أن يقول له الشيطان: أي حاجة بالمسلمين إلى الاستعداد للجهاد؟ ويكفيهم التوكل على الله عزَّ وجلَّ. وهو إذا أراد أن يهلك عدوهم