فإن قيل: إذا كانت العدالة تنافي التهمة، ويغلب على الظن لو شهد العدل لنفسه أنه لم يشهد زورًا. فلماذا لم يقبل الشرع شهادة العدل لنفسه؟
قلت: أكتفي في هذا بأنّ التهمة تجوز في كثير من الناس، فالتهمة هنا منظورٌ إليها غير مبنيٍّ عليها، كالمشقّة في حكم قَصْر الصلاة، ونظائر ذلك مما يكون المعنى المستدعي للحكم خفيًّا أو غير منضبط، فيعدل الشارع عن بناء الحكم عليه إلى بنائه على معنى ظاهر منضبط، يكون مَظنة للأول في الجملة، ثم يكون مدار الحكم على الثاني، ثم لا يلزم من وجود الثاني مع الحكم وجود الأول، ولا من وجود الأول وجود الحكم.
فالمسافر المترفِّه يقصر الصلاة مع عدم المشقَّة التي تستدعي التخفيف، والمقيمون العمَّال في المناجم ونحوها عليهم مشقَّة شديدة ولا يقصرون، فكذلك هنا لا يلزم مِن ردِّ شهادة الرجل لنفسه أن يكون حقيقًا بأن يُتَّهم بشهادة الزور، ولا من وجود التهمة في شهادة لغير النفس أن تردّ بمجرَّد وجود التهمة، وإنما تردّ لعدم ثبوت العدالة الثابت اشتراطها [ص ٢٠] بنص آخر.
فالعدل الثابت العدالة لا تُقبل شهادته لنفسه، لا لأجل أنه حقيق بأن يُتَّهم، فإن العدالة تدفع ذلك، بل العلة كون الشهادة للنفس أو كونها دعوى.
ولهذا لما حاول الشافعي (١) قياس الشهادة للفرع والأصل على الشهادة للنفس لم يعرِّج على التهمة، بل عوَّل على أن الفرع من الأصل، فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ولم يخفَ عليه ضعف هذا، فعضده