ولما عرف أصحابه وجود الخلاف، ذهب بعضُ حُذَّاقهم ــ كالمزني وأبي ثور ــ إلى القبول.
فإن قيل: وما المانع من اتهام العدل؟
قلت: أما أن يتهمه من لا يثق بعدالته، أو من له هوًى في تكذيبه، فلا مانع منه، وإنما الممنوع أن يكون العدل حقيقًا بأن يُتَّهم.
هذا، وللحُكْم المذكور (١) حِكَم تُدْرَك بالتدبّر، منها: أن الشهادة للنفس أظهر مظان التهمة، فكأنّ في عدم قبولها تنزيه للعدل عن أن يتهمه أكثر الناس؛ لأن أكثرهم لا يعرفون عدالته حقّ المعرفة.
ومنها: أنها لو كانت الشهادة للنفس تُقَبل من العدل لتهاون أكثر العدول في الإشهاد على معاملاتهم، ثقةً بأن شهادتهم لأنفسهم مقبولة، فيؤدي هذا إلى أن تكثر القضايا التي تكون فيها شهادة المدعي لنفسه، فيرتاب فيها القاضي؛ لأنه لا يعرف عدالة العدول معرفة خبرة، وإذا ارتاب القاضي كان عليه أن يتريّث في فصل القضية، فيؤدّي ذلك إلى أن تتراكم القضايا عند القضاة، ويتأخّر الفصل فيها، وذلك يضرّ بالناس.
ومنها: أن المعدّل قد يخطئ ويتساهل أو يداهن، فيعدّل من ليس بعدل، فلو كانت شهادة العدل لنفسه تُقبل لاغتنم هؤلاء الذين عُدّلوا بغير حقٍّ ذلك، فأكثروا من الدعاوى الباطلة، فقد يضيع بسبب ذلك من الحقوق أكثر
(١) كتب المؤلف بعدها: "ص ٢١". يعني أن باقي الكلام هناك، وقد كان ضرب على الكلام هناك، ثم بدا له أن يلحق في هذا الموضع.