للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم ينشأ دائبًا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارًا، ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة، كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة؛ وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث، ويسمعوا منه، ويرووا عنه.

وفي "تهذيب التهذيب" (ج ١١ ص ١٨٣): "قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: [١/ ٣٠] "كنت قاضيًا وأميرًا ووزيرًا، ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (١): مَنْ ذَكَرت؟ رضي الله عنك".

وفيه (ج ٦ ص ٣١٤): "روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت، فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلّقت بالكعبة وقلت: يا ربِّ مالي؟ أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاؤوني".

وقد عَلِم طالب الحديث في أيام طلبه تشدُّدَ علماء الحديث وتعنُّتهم، وشدة فحصهم وتدقيقهم، حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه، فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت، يحاول إمساكها، وبيده مخلاة يُريها البغلةَ، ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها. فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فتركوا الشيخ وذهبوا، وقالوا: إنه كذاب. كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيرًا، والواقع أنه ليس فيها شيء (٢).


(١) كان إذا كثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيِّت يسمع إملاء الشيخ الحديث، ويستفهمه فيما يخفى، ثم يعيد ذلك بصوت عال ليسمعه الحاضرون. فهذا الرجل يقال له "المستملي". [المؤلف].
(٢) ذكرها المؤلف أيضًا في "الأنوار الكاشفة" (ص ١١٢) بنحوها.