أدلَّة الأحكام، لا يبيح إلغاء الجميع جملة؛ بل يؤخذ بما لا مخالف له، وينظر في المتخالفين فيؤخذ بأرجحهما، فإن لم يظهر الرجحان أُخِذ بما اتفقا عليه. مثال ذلك: ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص سنة ٥١، ٥٤، ٥٥، ٥٦، ٥٧، ٥٨. فإن لم يترجَّح أحدها أُخِذ بما دلَّ عليه مجموعُها أنه لم يعش بعد سنة ٥٨. فإن جاءت رواية عن رجل أنه لقي سعدًا بمكة سنة ٦٥ مثلًا استنكرها أهل العلم، ثم ينظرون في السند، فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقته حملوا عليه. فابن جَزء قيل في وفاته سنة ٨٥، ٨٦، ٨٧، ٨٨، وأرجحها الثاني؛ لأنه قول ابن يونس مؤرخ مصر، وهي مع ذلك مجتمعة على أنه لم يعش بعد سنة ٨٨. فلما جاءت تلك الرواية أنه لقي بمكة سنة ٩٦ أو ٩٨ استنكرها أهل العلم، ووجدوا أحقَّ مَن يُحمل عليه ابن الصلت.
فأما قول الغزنوي المتأخر: إن ابن جزء توفي سنة ٩٩، فهو من نمط ما في «المناقب» للموفق (ج ١ ص ٢٦) روى من طريق الجِعابي القصة، وفيها أن اللقاء كان سنة ٩٦، ثم حكى عن الجِعابي أن ابن جزء مات سنة ٩٧= فهذان القولان مع تأخر قائليهما إنما حاولا بهما تمشية القصة. رأيا أن فيها أن اللقاء كان بالموسم، وأن المعروف في وفاة ابن جزء أنها بمصر بقرية يقال لها «سَفْط القُدور» كما جاء عن الطحاوي، وأن من شَهِد الموسم لا يمكن أن يصل إلى مصر إلا في السنة التالية [١/ ١٧٧] = فبنيا على ذلك، ولم تمكنهما الزيادة على ذلك لئلا تفحُش المخالفة لما نُقِل عن المؤرخين جدًّا.
الوجه الثاني: ابن جَزء أقرب إلى عصر تدوين الوفيات من أُبي بن كعب، ففي «فهرست ابن النديم»(ص ٢٨١) أن لليث بن سعد تاريخًا،