ومن عجيب شأن التعصب أنه يبلغ بصاحبه من العمى أن يسعى جاهدًا في الإضرار بمن يتعصب له، متوهمًا أنه إنما يسعى في نفعه. لو كان مولد أبي حنيفة متقدمًا كما زعموا، بحيث أدرك [١/ ١٨٤] جماعةً من الصحابة وأكابر التابعين، كان الذي ينبغي له أن يتحرَّى السماعَ منهم لأحاديث كثيرة يحتج بها في كتبه، ويرويها عنه أصحابه كأبي يوسف ومحمد في كتبهم الثابتة عنهم. فلو ثبت مع ذلك أحاديث عن أولئك لكنها قليلة، وكان معظم روايته عمن سِنُّه قريب من سنِّه كحماد بن أبي سليمان، لكانت شُنْعةً عليه أن يتشاغل عن الاستكثار من أولئك حتى يبلغ عمره ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر، بالمخاصمة في الإرجاء والقدر كما يأتي. وسيأتي (١) في ترجمة أبي العطوف جرَّاح بن مِنهال عن سلمة بن سليمان أحد ثقات أصحاب ابن المبارك قال: «قال رجل لابن المبارك: هل كان أبو حنيفة عالمًا؟ قال: لا، ما كان خليقًا لذاك. ترك عطاء، وأقبل على أبي العطوف! ». وقد نازع الأستاذ في صحة هذه الحكاية عن ابن المبارك بما فيه ما فيه، وهَبْ أنها لم تصح عن ابن المبارك، فالشُّنْعةُ بحالها. ولذلك حاول الأستاذ أن يُثبت أن أبا حنيفة استكثر من عطاء، وربما أنظر في ذلك في ترجمة أبي العطوف، وعلى كل حال فهذه الشُّنعة أخفُّ بكثير من عدم الاستكثار من الصحابة وكبار التابعين، فكيف إذا لم تثبت عنه رواية واحدة عن صحابي أو تابعي كبير؟ ! فأولئك المساكين والأستاذ معهم يركبون ــ كما يعبِّر به الأستاذ ــ كلَّ مركب لمحاولة إثبات أن أبا حنيفة أدرك عدة من الصحابة، ويحتمل أن يكون قد سمع منهم، وفي ذلك عبرة!