وإنما قد يمكن أن تورَد شبهة يتوهم السامع أنها حجة. وهذا المعنى ــ كما تقدَّم ــ وصفٌ بقوة العارضة والقدرة على الجدل، وهو فيما بين الناس مدح. فأما بالنظر إلى الأحكام الشرعية، فيحتمل المدح بأن يكون المقصود أن أبا حنيفة كان من القدرة على بيان الحق وإقامة الحجة عليه غايةً، بحيث لو فُرِضَ أنه ادعى الباطل لأمكنه أن يخيِّل للسامع أنه حقٌّ، فما بالك بالحق؟ ويحتمل الذمَّ بأن يكون المقصود أنه كان ماهرًا في الجدل والمخاصمة بحيث يُري الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلًا.
وزَعْمُ الأستاذ أن ابن أبي حاتم إنما سمع الحكاية بلفظ:«لقام بحجته»، فغيَّرها إلى ما وقع في روايته ليصرفَها إلى الذم= تهمة باطلة، وفرية كاذبة، وبهتان عظيم!
أولًا: لما ثبت من ديانة ابن أبي حاتم وأمانته وصدقه وورعه.
ثانيًا: لأن اللفظ الواقع في روايته يحتمل أن يكون مدحًا كما مرَّ، فلو كان ممن يستحلُّ التغيير لغَيَّر إلى لفظ صريح في الذم، واستغنى عن التفسير الذي يمكن أن يُنازَع فيه.
ثالثًا: لفظ: «لقام بحجته» يحتمل أن يكون ذمًّا أيضًا كما مرَّ، فلو كان ابن أبي حاتم حريصًا على أن يحمل الحكاية على الذم لأمكنه أن يفسِّر هذا اللفظ بما يقتضي الذم، ويحتجَّ بقول الله عز وجل:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: (٥٨)] وبعدَّة أحاديث معروفة. فما الذي يُلجئ ابنَ أبي حاتم إلى أن يضحِّي بأمانته في النقل ــ وهي رأسُ مالِ مثلِه ــ لأجل غرضٍ يمكنه تحصيله بدون تلك التضحية؟