قلت: كان الدعاة يرون أنه لا غنى لهم عن أن يكون بجانبهم من يعارضون به الإمام أحمد، ولم يكن هناك إلا ابن المديني أو يحيى بن معين. فأما ابن معين فإنه وإن كان أضعف صبرًا وأقل ثباتًا من أحمد بحيث إنه أجاب عند الإكراه إلى إجراء تلك المقالة على لسانه، فلم يكن من الضعف بحيث إذا هدَّدوه وخوَّفوه على أن يسايرهم ليجيبهم إلى ذلك. ولعلهم قد حاولوا ذلك منه فأخفقوا، فما بقي إلا ابن المديني، وكان هو نفسه شهد على نفسه بالضعف قال:«قويَ أحمدُ على السوط ولم أقوَ». وقال لابن عمار:«خفتُ أن أقتل، وتعلم ضعفي أني لو ضُربتُ سوطًا واحدًا لمتُّ» أو نحو هذا. وقال لأبي يوسف القُلُوسي لما عاتبه:«ما أهون عليك السيف! ». وقال لعلي بن الحسين:«بلِّغْ قومك عني أن الجهمية كفار، ولم أجد بدًّا من متابعتهم؛ لأني حبست في بيت مظلم وفي رجلي قيد حتى خفت على بصري». وذُكِر عند يحيى بن معين فقال:«رجل خافَ».
وإنما أنكر عليه في طول مسايرته للجهمية ما جرى في حديث الوليد بن مسلم. كان الوليد يروي عن الأوزاعي عن الزهري عن أنس عن عمر أنه قرأ قولَه تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس: ٣١] فتردد في معنى الأبّ، ثم قال:«أيها الناس خذوا بما بُيِّن لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلُوه إلى عالمه»، فأخطأ الوليد مرةً فقال:«إلى خالقه». كأنه جعل الضمير للأبّ ونحوه مما ذكره الله عز وجل من مخلوقاته، فكان أهل العلم يروونه عن الوليد على الصواب، وربما ذكروا أنه أخطأ فقال:«إلى خالقه». ورواه ابن المديني بالبصرة:«إلى عالمه»، ونبَّه على الخطأ فيما يظهر، ثم كأن الجهمية عرفوا ذلك، فألزموا ابن المديني أن يرويه بلفظ «إلى خالقه» قائلين: إنك قد