وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الآية، ولكنه مستثنى استثناءً متصلًا على ما هو الأصل في الاستثناء.
ولنفرض مثالًا يبيِّن ذلك: ثوبانِ قيمةُ كلٍّ منهما بحسب الزمان والمكان عشرة، فقد يجهل البائع ذلك، ويظن قيمةَ كلٍّ منهما خمسة فقط فيبيعهما بعشرة. وقد يجهل المشتري فيظن قيمةَ كلٍّ منهما عشرين فيشتريهما بأربعين. فمن أخذهما بقيمة أحدهما، فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لا تحقُّق له. ومن باعهما بمثلَيْ قيمتهما، فقد أخذ نصف الثمن بما لا تحقُّق له. هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان، وهو المتعارف بين الناس، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعدُّه الناس غابنًا أو مغبونًا البتة. لكنك إذا تعمقت قد تقول: إنما القيمة الحقيقية مقدار ما غرِمه البائع على السلعة، أو مقدار ما ينقصه فقدها. فيقال لك: هذا بالنظر إلى البائع، فأما بالنظر إلى المشتري فقيمتهما مقدار ما تنفعه. وقد يتعارضان، كمن عنده ماء كثير، فباع منه شَرْبةً لِمضطَرٍّ. ويبقى النظر في الثمن، ويخفى الأمر ويضطرب، وتضيق المعاملة جدًّا.
لا جَرَم، عَدلَ الشرعُ إلى اعتبار قيمة الزمان والمكان في ضمان المتلَفات وغير ذلك ما عدا التجارة. ولمَّا كان الاعتدادُ بذلك في التجارة يسدُّ بابَ الربح، فيرغب الناس عن التجارة، فتضيع المصالح= عدَلَ الشارعُ إلى اعتبار ما تراضى به المتبايعان. فما تراضيا به، فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة. لكن هذا لا يمنع أن يسمَّى الغبنُ أكلًا بالباطل بالنظر إلى التحقق. وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرَّمًا في الشرع. وفي الحديث: "كلُّ شيء يلهو به الرجل باطلٌ إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسَه،