بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفوا فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهونهم عنه. وأما الضرب الثاني فكانوا يُقِرُّون فيه كلَّ مجتهد على اجتهاده، وأنّ هذه القضية من الضرب الثاني. كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين، وكان مَن بالأقطار التي سمَّاها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث، ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدلَّ ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني. واستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان بالمدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به. ثم لما صار بالشام كأن [٢/ ١٦٢] فقهاءها ناظروه، فقوي عنده قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجةً على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه.
أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وإن حُمِل كلامُ الليث على غير هذا المعنى صار زللًا داحضًا لا ردًّا ناهضًا.
ونحن لم نَدَّعِ أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقض قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة، وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا.
وأما قول الأستاذ:«حتى إن يحيى الليثي ... »، فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قَوِيَ عند المخالفين أنه لا يُقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد أقمناها.