فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان مُوقنًا كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده، أفلا يكون مُثابًا على إيمانه واعترافه وطاعته؟
قلت: ليس هذا من ذاك في شيء. أما الاعتقاد فمن وجهين:
الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفةً للمؤمن من أول الأمر، وإنما بلغ تلك الدرجة بنَظَره وتدبُّره ورغبته في الحق ومخالفته الهوى. وبهذا ثبت صدقُ حبه للحق وإيثاره [٢/ ١٨٤] على الهوى، فيستمرُّ له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة. وهو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشربَ فقال له مسلِّط: إن لم تشرب ضربتُك أو سجنتُك. فمثل هذا لا يقال إذا شرب: إنه إنما شرب مكرهًا.
الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمرُّ بدون جهاد، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجبَ عنه الحجة وتُشكِّكه فيها، والشهوات تساعدها، فثباتُه على الإيمان برهانٌ على دوام صدق محبته للحق، وإيثاره على الهوى.
وأما الاعتراف، فالأمر فيه واضح. فإنّ وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفًا لغيره، فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل إنه إذا ذكر (١) أن الحجة واضحة عنده وَجَدَ كثيرًا من الناس يكذِّبونه أو يرتابون في دعواه.
وهكذا حاله في الطاعة من عملٍ وكفٍّ، فإن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم انكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها