مرارًا. وإذا احتمل ــ ولو على غاية البعد ــ أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علمًا بصحته، ولا الجزم بإفادته العلم علمًا بذلك، ولا الجزم بأن ما أفاده عِلْمٌ عِلْمًا بذلك، ولا الجزم بعدم المعارض علمًا بعدمه، ولا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلًا.
فإن قيل: إننا نقطع مع هذه الشبهات كلِّها بأن من الأنظار ما هو صحيح.
قلت: إن كان المراد الصحة في الجملة أي أنه يمتنع أن تكون الأنظار كلها فاسدة، فهذا لا يُجدي في الأنظار الجزئية واحدًا واحدًا، وإنما يفيد في كل منها الاحتمال. فكلُّ نظر يُجزم بصحته، فإنه يحتمل أن يكون فاسدًا في نفس الأمر، ولا ينافي ذلك امتناع أن يعمَّ الفسادُ جميعَ الأنظار.
وإن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها، فهذا لا يسلَّم بالنسبة إلى النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات ونحوها. وإنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم، وقد علمتم ما فيه. وإنما يسلّم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قُرْب.
نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها، وكأن تكون القضية بديهية قوية، وهي في الدين ويُقِرُّها الشرع؛ وكأن يصرِّح بها الشرع تصريحًا لا يمكن تأويله إلا بحمله على الكذب أو التلبيس. وسيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى. لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحةَ نظرٍ دقيقٍ يوافقها بنتيجته، إذ قد تصحّ النتيجة مع فساد النظر، كما لو أشرتَ إلى جسم أبيض وقلتَ: هذا جسم وكل جسم أبيض، فإن النتيجة "هذا أبيض" وهي صادقة، والنظر فاسد، كما لا يخفى.