فكانوا يرون بطلان ظواهر النصوص التي يقول الأشعرية ببطلانها، إلا أنهم لم يكونوا يخوضون في بيان معانيها الأخرى. فكانوا يعتقدون أن الله عز وجل غير مباين للعالم ولا محايث له ولا ولا، ومع ذلك يطلقون أنه تعالى على عرشه فوق سماواته، معتقدين بطلانَ ظاهرِ هذا، ساكتين عن معناه الذي يرونه صحيحًا! وهذا القول الأخير شهره المتعمقون حتى لا يكاد يخلو عنه كتاب من كتب الخلف في أي فنٍّ كان.
ويمكن أن يتشبثوا في الانتصار له بأن يقولوا: لا نزاع أن السلف كانوا أفضل الأمة [٢/ ٣٤٥] وخيرها وأعلمها بالدين وأثبتها على الحق، وكان أسلافنا من المتعمِّقين علماء خيارًا صالحين، يعرفون فضل السلف، فلم يكونوا ليخالفوهم.
فيقال لهؤلاء: إن أسلافكم ذهبوا إلى أنه لا يُحتَجُّ في العقائد بالكتاب ولا السنة ولا أقوال السلف، بل كان المتبوعون منهم من أجهل خلق الله بالسنة وأقوال السلف، وإنما استقوا عقائدهم من النظر العقلي المتعمَّق فيه. ثم اعترض بعضَهم نصوصُ القرآن التي تخالف رأيه ورأي أشياخه من المتعمقين، فحاول صرفَها عن معانيها، مع أنه في مواضع أُخر يقرِّر أنَّ مثلَ ذلك الصرف لا يسوغ، وأن الخبر إذا كان صريحًا في معنًى، أو ظاهرًا فيه، ولا قرينة صحيحة تصرف عنه، فزعمُ أن ذاك المعنى غيرُ واقع تكذيبٌ للخبر، وإن زعم أن المخبِر تأوَّل في نفسه معنًى آخر، كما تقدم إيضاحه غير مرة. وهكذا تصدَّى بعضهم لنصوص السنة التي تخالف رأيه ورأي أشياخه، فردَّ بعضَها زاعمًا أنها مخالفة للعقل، وحاول صرفَ بعضها عن تلك المعاني، كما صنعوا في نصوص القرآن.