للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأنت إذا عرضتَ قوله: «ربما حصل لك الأنس ... » على هذا اليقين الذي شرحه علمتَ أن بينهما كما بين السماء والأرض. فثبت أنَّ ما سمَّاه أدلةً عقليةً موجبةً إثباتَ موجودٍ ليس في جهة، ليس معنى إيجابها ذلك إثمارَ اليقين ولا ما يقاربه ولا ما يشبهه. فإذ كانت كذلك، فكيف يسوغ أن تعارض بها القضية البديهية الواضحة؟

فإن قيل: لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية، فلا تبقى يقينية.

قلت: أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع. وأما زلزلته في بعض النفوس فلا يقدح. ألا ترى أن من العقلاء من شكَّ في البديهيات كلِّها وقدح فيها، كما مرَّ في الباب الأول؟ أَوَلا ترى أن الغزالي نفسه صرَّح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه نفسه كان يشك في الحسِّيَّات والبديهيات، وأنه بقي على ذلك نحو شهرين. وقد تقدَّم حكاية ذلك في الباب الأول (١).

فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفاتٌ إلى الشبهات ورعبٌ منها إذا حُكِيتْ عن جماعة اشتهروا بالتحقيق والتدقيق، وأنهم اعتمدوها، فيعرض التشكك، وهذا هو الذي ربما يعرض هنا، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة. وقد تقدَّم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم: «من مارس مذهبًا من المذاهب برهةً من الزمان ونشأ عليه، فإنه [٢/ ٣٥٣] يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه» (٢). ولم يُجِب مخالفوهم إلا بقولهم: «الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك». فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تُورِث الجزمَ ببطلان ما


(١) ص (٢٢٧ - ٢٢٨ و ٢٣٥). [المؤلف]. انظر (ص ٣٦٢ - ٣٦٣ و ٣٧٢ - ٣٧٣) من هذه الطبعة.
(٢) تقدم ص (٢١٦) [ص ٣٤٦]. [المؤلف]