هذا، وإذا كان المدار على التمييز فما بال الغلام يكون الآن غير مكلف, ثم يبلغ بعد ساعة فيصير مكلَّفًا، والبلوغ لا يزيد في العقل شيئًا؟ بل لو قال قائل: إنه ينقصه لما يطرأ من قوَّة الشهوة التي تغالب العقل لَمَا أَبْعَدَ.
فإن قيل: المناط في الحقيقة هو التمييز، ولكنه غير منضبط، فضبطه الشارع بالبلوغ، على ما تَقَرَّر في أصول الفقه في بيان العلَّة، ويمثِّلونه بعلَّة قَصْر الصلاة أنها في الأصل المشقةُ، ولكن لعدم انضباطها ضبطها الشارع بالسفر بشرطه, واغتفر ما قد يترتب على ذلك من الإخلال بأصل الحكمة في بعض الجزئيات مراعاة لحكمة الضبط التي هي أهمُّ.
قلت: فقد يقال: إن ضبط المناط إنما يُحتاج إليه في إقامة الأحكام الدنيوية على المكلَّف كالحدود ونحوها، فأما الجزاء الأخروي فالله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، فقد كان يمكن أن يُقال للناس: أما أنتم فلا تُجْرُوا على الصبي حكم المكلَّف حتى يبلغ, وأما الصبي في نفسه فينبغي له إذا حصل له أصل التمييز أن يعامِلَ نفسه معاملة المكلَّف؛ لأنه قد يكون حصل له في علم الله تعالى نصاب التمييز فيكون في علم الله تعالى مكلَّفًا يستحق العقوبة في الآخرة على إجرامه وتقصيره. وهذا ــ مع ما يظهر من مطابقته للحكمة ــ فيه مصلحة ظاهرة ومعونة لوليِّ الصبي على ما أُمِر به من تعويد الصبي المحافظة على الفرائض واجتناب القبائح وتأديبه على الإخلال بذلك.
أقول: لا أعرف لهم جوابًا ينفعهم، وأما نحن فنقول: إن الله تعالى عَفُوٌّ كريم، فعفا عن الصبيِّ حتى يبلغ. ومع ذلك فقد دلَّتنا الشريعة على الحكمة في ذلك، وهي أنه كما يُحتاج إلى ضبط مناط التكليف لتعريف الناس متى يعامِلون الإنسان معاملة المكلَّف، فإنه يُحتاج إلى ذلك لأمرين آخرين: