المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: «حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرتِ أنّ الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان (أي ملكان ــ كما في رواية أخرى ــ في صورة رجلين) ... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: مَنْ طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيِّ شيء؟ قال: في مُشْط ومُشاطة وجُفّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه فجاء ... قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال:«قد عافاني الله، فكرهتُ أن أثير على الناس شرًّا، فأمرت بها فدُفِنَتْ».
ومحصّل هذا: أن لبيدًا أراد إلحاق ضرر بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فعمل عملًا في مُشط ومشاطة الخ، فهل من شأن ذلك أن يؤثر؟ [ص ١٨٢] قد يقال: لا، ولكن إذا شاء الله تعالى خَلَق الأثرَ عَقِبه. والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص، وبيانُه: أن الأفعال التي من شأنها أن تؤثِّر ضربان:
الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء مَنَعَه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا، فلما أراد الله تعالى منعه قال:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء: ٦٩].
الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكَّن من التأثير رُفِع المنع فيؤثر. وقوله تعالى في السحر:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة: ١٠٢] يدلُّ أنه من الضرب الثاني، وأنّ المراد بالإذن الإذن الخاص، والحكمةُ في مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شؤونهم يشهد له، وإذ كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.