المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده. وفيه ثلاث قضايا:
القضية الأولى: قال: (فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد).
أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها، فإنْ أراد الصحة في نفس الأمر فهب أنَّا لا نقطع بها ولكنَّا نظنها ظنًّا غالبًا، وعلى كلا الحالين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومَن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظنَّ فلا مفرَّ من الظنّ وما يترتَّب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حقٌّ في كلّ دليل لا يفيد إلا الظن.
القضية الثانية: أنه مناف للعصمة في التبليغ قال: (فإنه قد خالط عقلَه وإدراكَه في زعمهم ... فإنه إذا خولط ... في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه).
أقول: أما المتحقِّق من معنى الحديث كما قدَّمنا في المقام الأول فليس فيه ما يصحّ أن يُعَبَّر عنه بقولك: «خُولط في عقله» وإنما ذاك خاطر عابر، ولو فُرِض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا لم يتَعَدَّه إلى سائر أمور الدنيا فضلًا عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ، بل سبيلُه سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا، وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع (ص ١٨ - ١٩)(١). وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون، وأَخْذه برأسه لظنه أنه قصَّر مع أنه لم يقصِّر، وفيه قول يعقوب لبنيه لمَّا ذكروا له ما جرى لابنه الثاني:{بَلْ سَوَّلَتْ [ص ١٨٣] لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}[يوسف: ١٨]