يتَّهمهم بتدبير مكيدة مع أنهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى عن يونس:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء: ٨٧].
القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن (في نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم - وعدّه من افتراء المشركين عليه ... مع أن الذي قصَدَه المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يُلابسه عليه السلام، ومُلابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضَرْب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي يُنسب إلى لبيد ... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نَسَب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبَّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا).
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه - صلى الله عليه وسلم - يفتري ــ أي يتعمَّد ــ الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنَّ له اتصالًا بالجنّ، وأنَّ الجِنّ يُلْقون إليه ما يلقون، فيصدّقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه. هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جِنَّة. مجنون. كاهن. ساحر. مسحور. شاعر. كانوا يزعمون أنَّ للشعراء قُرَناء من الجن تُلقي إليهم الشعرَ؛ فزعموا أنه شاعر أي: أن الجن تُلقي إليه كما تُلقي إلى الشعراء، ولم يقصدوا أنه يقول الشعر. أو أن القرآن شعر.
إذا عُرِف هذا، فالمشركون أرادوا بقولهم:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الإسراء: ٤٧] أنَّ أمْرَ النبوّةِ كلّه سحر، وأن ذلك ناشئٌ عن الشياطين استولوا عليه ــ بزعمهم ــ يُلقون إليه القرآن، ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كلّه ظانًّا أنه إنما يتلقّى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر