فسقاه الطبيب دواءً لا يدري أنه مسكرٌ، وأما الآخران فتعمَّدا شرب [ز ٤٧] الخمر. فأما الأوَّل فاشتدَّ به السكر وعَرْبَد حتى وقع على أخته وقتل أمَّه وكذلك وقع لأحد المتعمِّدين. وأما الثالث فضُبِطَ وأُغْلق عليه بيت حتى أفاق، أفلا ترى أن جُرْم الثالث في صدور الناس دون جرم الثاني بكثيرٍ، وأما الأوَّل فلا يرون له جرمًا، وإن نَفَرَتْ منه الطباع عَذَرَتْهُ العقول.
ولو أنَّ ثلاثة نفر عَمَد كلٌّ منهم إلى رجلٍ مصوِّبًا بندقيته إليه ورماه عامدًا لقتله، فأخطأ أحدهم، وأصاب الثاني فجرح، وأصاب الثالث فقتل، لكانت أجرامهم متفاوتةً في حكم الله عزَّ وجلَّ وفي عقول الناس مع أن أصل فعلهم الذي وقع بأصل اختيارهم واحدٌ.
بقي قول العضد:"ولم يُنْقَلْ عن أحد قبل المخالفين هذا الفرقُ"، وقد يجاب بمنع عدم النقل، كيف وقد نقل القول بمنع التكليف بما لا يطاق، وهذه المسألة من فروعه وإن لم تُنْقَلْ بخصوصها. ولعلَّهم إنما سكتوا عنها لأنه لا يُعْلَم صدق اليهودي مثلًا في قوله:"قد تدبَّرتُ حجج الإسلام وبذلتُ المجهود واستفرغتُ الوُسْع راغبًا في الحقِّ حريصًا على اتِّباعه فتبيَّن لي بطلان الإسلام". ولم يُفَرِّق الشرعُ بين مَن يَدَّعي هذه الدعوى وغيره من الكفَّار المصرِّحين، فرأوا أن البحث في نجاته في الآخرة إن صدق بحثٌ قليل الجدوى وتنشأ عنه مفاسد لا تحصى.
قال عبد الرحمن: الصواب ما قدَّمته أن حجج الإسلام واضحةٌ، وشبهات الكفر واهيةٌ، وقد تكفَّل الله تعالى لمن جاهد فيه محسنًا أن يهديه ويكون معه، فإطلاق السلف أن كلَّ مَن بلغته الدعوة وأمكنه النظر فلم يُسْلِمْ هالكٌ، حقٌّ واضحٌ؛ فإن مَن كان كذلك لا يكون إلا مُقَصِّرًا أو معاندًا. ومَن