"وأخرج ابن عدي من وجه آخر: أن الشافعيَّ لما قدم بغداد لزمه أحمد مع بغلته، فأخلى الحلقة التي كان يجتمع فيها مع يحيى بن معين وأقرانه، فذكر نحوه".
فكان ابن معين يرى العلمَ كلَّ العلم هو [ص ٢٤] جمع الأحاديث وتتبّعها، ثم النظر فيما يصحّ وما لا يصح، والبحث عن الخطأ والعلل وأحوال الرجال، ونحو ذلك مما يتعلق بالرواية. وكان يجتمع هو وأحمد وأقرانهما لذلك، وكان سنّ الشافعي قريبًا من سنهم، وليس بالمكثر من الحديث، بل كلّ من أحمد ويحيى أكثر منه حديثًا وأعلم بالرواة منه. فلم ير ابن معين لانقطاع أحمد إلى الشافعي ولزومه له معنى. فأما الفقه فلم يكن يحيى يبالي به؛ فإنه كان في نفسه يأخذ بما يتّضح له من السنة، ويقلّد في الباقي، ولا يبحث مع أحدٍ ولا يناظر، ولا يهمه اختلاف الناس شيئًا.
وكان أحمد على خلاف ذلك، فإنه كان يتفقّه ويرى وجوب الاجتهاد، ويسوؤه ردّ بعض الناس للسنة. وكان هو وكثير من أهل الحديث ينكرون على أهل الرأي ولا يستطيعون مناظرتهم، فكان أهل الرأي يسخرون من أهل الحديث ويستضعفونهم ويرمونهم بالجهل والغباوة ويستطيلون عليهم.
وفي كتاب ابن أبي حاتم (٣/ ٢/٢٠٣) و"توالي التأسيس"(ص ٥٦)(١) عن أحمد: "كانت أقضيتنا ــ أصحاب الحديث ــ في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنْزَع حتى رأينا الشافعي ... ".