وكان الشافعي قد تمكّن من العلم بالكتاب والسنة، وعرف طرق الاجتهاد، وعرف كلامَ أهل الرأي وأقوالَهم، مع ما أوتيه من العقل والفهم وقوّة العارضة، والتمكُّن من مناظرة أهل الرأي والاستعلاء عليهم؛ فوجد به أحمد ضالّته المنشودة، ولم يكن لابن معينٍ شأن في ذلك، فاختلف نظرُ الشيخين ــ أحمد وابن معين ــ فكان ابن معين يرى أن أحمد يضيّع أوقاته فيما لا يعني ويترك [ص ٢٥] ما هو العلم حقًّا ــ في رأي ابن معين ــ وهو ما كانوا يجتمعون عليه من قبل من علوم الرواية، فلذلك كان ابن معين يلوم أحمد فيبالغ كما مرّ وأحمد لا يُصغي إليه.
ولما كان السبب في هذا هو الشافعي، تولّدت في نفس ابن معين شِبْه نُفرةٍ عن الشافعي. وقد يكون انضمّ إلى ذلك أن الشافعي كان يشعر في نفسه بفضله على أهل الحديث لما تقدّم، ويرى أن يحيى لا شأن له بالفقه، فلم يختلف الشافعيُّ إلى يحيى، ولا اعتنى بتبجيله واسترضائه، وقد كان يحيى تعوّد من المشايخ الذين يَرِدون بغداد مراعاة جانبه، والإبلاغ في ملاطفته (١)، فكان ذنب الشافعي إلى ابن معين أنه سلبه صاحبَه ورفيقَه وأنيسَه وصديقَه الذي كان لا يكاد يفارقه حَضَرًا وسفرًا منذ شرعا في طلب الحديث [ص ٢٦]؛ وبذلك فوّت عليه ما كان يجده في الاجتماع والمذاكرة من فائدة ولذَّة، وأنه مع ذلك لم يهَبْه ولم يعرف له حقًّا كما اعتاده من سائر المشايخ الذين هم أكبر من الشافعي سنًّا وأقدم سماعًا، وفيهم مَن هو أكثر حديثًا.
(١) ذكر المؤلف أمثلة من ذلك من "تهذيب التهذيب"، ثم ضرب عليها. انظر "التهذيب": (١١/ ٢٨٠ - ٢٨٨) في ترجمة يحيى بن معين، و (١٠/ ٣٣٤) في ترجمة موسى بن إسماعيل.