للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُسَلَّمٍ له الاجتهاد، وأنَّ عامَّة الأولياء الذين شاع بين الأمة تقليدهم كانوا مقلِّدين، ومَنْ قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد منهم لم يعترف له أهل عصره بذلك.

ولما بحثت عن أسباب تقليد الناس لمن يظنون به الخير والصلاح، وجدتُ أنه قد سرى إلى أذهانهم اعتقاد العصمة لكثير من أولئك، حتى لقد يغلو بعضهم فيُثْبِت لبعض الأولياء كمالات لا يثبتها للأنبياء، وينزهه عن أشياء لا ينزه عنها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولقد يُنْقَل له نقلًا (١) صحيحًا أو متواترًا أو يشاهِد بعينيه أنَّ فلانًا الذي يعتقد فيه يترك الصلاة ويشرب الخمر ويفعل ويفعل، فيقول: نعوذ بالله من فساد العقيدة ومن حرمان بركة الصالحين، إنما كان [٥٤] سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبر الناس ليظهر الموفَّق الذي لا تَزَلْزَلُ عقيدتُه من المحروم الذي يغترُّ بالظواهر، فكان يظهر للناس أنه عندهم ولم يصلّ، مع أنه في الحقيقة بمكة أو بالمدينة أو بجبل قاف أو نحو ذلك، ويظهر لهم أنه يشرب الخمر والواقع أنَّ الخمر كانت تستحيل في يده إلى شراب طهور.

ومنهم من يعترف بفعل سيده فلان بعضَ تلك الأعمال، ويقول: فَعَلَها وفَعَلَ غيرَها؛ لأنه قد وصل إلى الله تعالى، وتخلَّص من حيطة التكليف، فإنَّ الشريعة إنما فُرِضَتْ لأجل الوصول، فَمَنْ وَصَلَ ارتفعت عنه التكاليف.

وأحْسَنُ الغلاةِ حالًا مَنْ يقول: فَعَلَ ذلك الولي هذه الأمور لِحِكَمٍ لا نعلمها، أو لعلَّه ألهمه الله عزَّ وجلَّ إباحتها له، أو رأى النبيَّ صلَّى الله عليه


(١) كذا في الأصل، وهو مفعول مطلقٌ. وقوله: (أنَّ فلانًا) نائب فاعلٍ لـ (يُنقَل)، أو مفعولٌ لـ (يشاهِد).