هب أن هذا الاستدلال لا يفيد القطع، فإن الظن في مثل هذا يوجب التوقُّف، بل إن الشك يقتضي التوقف, بل الوهم كذلك، فأما بعد أن جاء الرسول بما يوافق ذلك الاستدلال فقد اتضح الحق، والحمد لله.
واعلم أن الاختيار الممنوح للإنس والجن ليس معناه أن الله عزَّ وجلَّ لا يكفُّهم عن شيءٍ أصلًا. أمَّا على رأي القائلين بأن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد كلها فواضح، وأمَّا على رأي المعتزلة ومن وافقهم فلأنهم يقولون: إن الله عزَّ وجلَّ يمنع العبد عن كثير من الأعمال التي تتعلَّق بغيره من العبيد ويحول بينه وبينها، والقرآن مملوء بالدلالة على ذلك، وقد قال تعالى في السحر والسحرة:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة: ١٠٢] , وقال تعالى لرسوله والمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: ١٦٦].
وعلى هذا فكل إنسان مستغنٍ عن التذلُّل لغيره من الناس بالالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، إلا أنَّ تصرُّف بعضِ الإنس في بعضٍ لمَّا غلب على الحسِّ والعادة وامتزج بالتكليف أقيم له وزنٌ ما في الشرع كما تقدَّمت الإشارة إليه، ولعلَّه يأتي له مزيد في الكلام على الدُّعاء. وأما تصرُّف الجن في الإنس فبخلاف ذلك، ولذلك لم يرخِّص الشرع في شيء من دعاء الجن والتذلل لهم البتة، ومثلهم أرواح الموتى إن قلنا إن لها تصرفًا ما، وسيأتي توضيح المقام في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى. والله أعلم.