فيؤخذ من كتابه وسنة رسوله مباشرةً إن تيسّر ذلك، وإلّا فبواسطة مُخبِر موثوقٍ به عنهما.
ومن المعلوم أن العالم قد تعزُب عنه بعض دلالات الكتاب والسنة، وقد لا تبلغه السنة، وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح، إلى غير ذلك من الأسباب التي يقع بها العالم في الخطأ في اجتهاده. ومن كان له ممارسة للسنة وطالع كتب الأئمة ومسائلهم مثل الشافعي ومالك وأبي حنيفة علم يقينًا أن كثيرًا من الأحاديث الثابتة لم تبلغهم البتة، أو بلغتْهم من وجهٍ لا يثبت، ولذلك كان كلٌّ منهم إذا تبيَّن له خطأ قولٍ من أقواله رجع عنه.
لم يكن أولئك الأئمة يشعرون بأنها ستنشأ لهم مذاهب على هذا النحو المشاهد أو قريب منه، فإنهم كانوا ينهون أصحابهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ويأمرونهم بالنظر واتباع الدليل. وكان العاميّ يستفتي مَن يجده من العلماء دونَ تقيُّدٍ بمعيَّن. واستمر الأمر كذلك إلى أصحاب الأئمة وأصحاب أصحابهم، ثم ضعفت الهمم، وقلَّ العلماء، وانتشرت أسباب الهوى، فنشأ التقيُّد بالمذاهب ثم استحكم، وصار المتفقِّهة يتنافسون، كلٌّ يحاول الزيادة في أتباع مذهبه، وأوقع ذلك في محنٍ وفتنٍ معروفة.
وأخذ الفقهاء من كل مذهب يحاولون أن يجعلوه كافيًا، فاشتغلوا بالتفريع على أقوال الإمام وأصوله، وألحقوا بها ما لم يذكره بالمقايسة والتشبيه والرأي المحض، مع التفنن في فرض صور نادرة بل مستحيلة. ثم جعلت الطبقة الثانية أقوال من قبلها أصولًا يلحقون بها ما لم يُذكر من الفروع، وهلمَّ جرًّا.