فمن عرف الحكمين السابقين، وعرف أن الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم رأى في أثناء الآية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} = علم أن الكلام مختص بالحكم الثاني، وهو حكم الوقاع ليلة الصيام، وحرمته على من قد نام فيها، وأن هذا ترخيص في ذلك.
وإذا فكّر علم أن الأكل والشرب في معنى الوقاع، من جهة منافاته للصوم، ومن جهة شدة تحريمه عليهم في ليلة الصيام على من قد نام فيها. فإذا بلغ قوله:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} استقر عنده ذلك. أي: أن الله عز وجل نسخ الحكم الثاني، فرخص في الوقاع والأكل والشرب في ليلة الصيام، وهي ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، لمن قد نام فيها.
فإذا سمع قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، فإنه إن رأى أن تبيُّن الخيطين من الغزل لا يكون إلا بعد خروج الليل بمدة= علم أنه إن حملت الآية على ذلك كان مخالفًا لما دل عليه ما تقدم أن النسخ مختص بالحكم الثاني، [ص ٥١] مع ما دل عليه أولها وسياقها وسبب النزول، كما مر، فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده على طرف الثُّمام، فإن الكلام دائرٌ على وقت الفجر الذي يختلط فيه بياض النهار بسواد الليل، ويبدو ذلك جليًّا على ما يقرب من صورة الخيطين في الأفق الشرقي، وقد عبروا عنه في أشعارهم بالخيط.