العباس رضي الله عنه لما بلغه الخبر أرسل غلامًا له إلى الحجاج يسأله، ثم ذهب الحجاج إلى العباس وأخبره بالواقع، وسأله أن يكتم ذلك ثلاثة أيام، فلا بد أن يكون جماعة من المشركين قد ذهبوا إلى الحجاج فسألوه.
قلت: فقد [ص ٧٨] يكون تحرَّى التورية أيضًا، فإن الكلام واسع، و «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب»، فإن كان ولا بدَّ، فالكلمات الصحيحة الموهمة كما مر في كلمات محمد بن مسلمة.
على أنه قد يقال: إنه بعد أن شاع عنه ما تقدم، وظهر أنه يريد أخذ ماله ويذهب به، لو سألوه فغالطهم يخشى أن يتهموه فيحبسوه، فيوشك أن يتبين لهم أنه قد أسلم، وأنه إنما قصد مخادعتهم؛ فيناله منهم شر، فرأى أنه مضطر إلى دفع ذلك، فجاز له الكذب للضرورة، كما يأتي.
هذا، وسواء قلنا بجواز الكذب الصريح في الحرب، أو بجواز ما ظاهره كذبٌ، وتأول القائل في نفسه معنًى صحيحًا، أو بجواز الكلمات الموهمة= فإن ذلك يختص بأن لا تترتب على ذلك مفسدة، ومما تترتب عليه مفسدة أن يكون الكلام على وجه تأمين المسلم للكافر الحربي، كقوله له:«لا تخف»، فإن الكافر إذا سمع ذلك فأمن لم يحل للمسلمين الاعتداء عليه حتى يُبلِغوه مأمنه وينذروه؛ لأنهم إذا اعتدَوا عليه وقالوا: ليس ذاك بأمان، شاع عن المسلمين أنهم يغدرون بمن أمَّنوه، ثم لا يكاد كافر يثق بأمان مسلم، وفي ذلك مفسدة عظيمة.
وهكذا ما كان على وجه المعاهدة، ولو من بعض أفراد المسلمين.