محل نصب على الحال من الفاعل (فَبَكَتْ أُم أَيْمَنَ) حاضنة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، يقال: اسمها بَرَكَة، وهي والدة أسامة بن زيد، ماتت في خلافة عثمان - رضي اللَّه عنهم - أجمعين (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -:"يَا أُمَّ أَيْمَنَ أتبْكِينَ) استفهام إنكاريّ، أنكر عليها بكاءها حيث كان برفع الصوت، كما يدلّ على ذلك رواية أحمد من طريق سفيان الثوريّ، عن عطاء بن السائب، ولفظه: "أخذ النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بنتا له، تَقضِي، فاحتضنها، فوضعها بين ثدييه، فماتت، وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن … الحديث (ورَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم - عِنْدَكِ؟ ") جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل أيضًا (فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَبْكِي) أي أيُّ شيء ثبت لي في عدم البكاء؟، وقد ثبت مقتضيه، وهو بكاء رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، كما بينته بقولها (وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم - يَبْكِي؟) الجملة في محل نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي) أي بكاءً برفع صوت، فالمنفي بكاؤه برفع الصوت، وهو الذي أنكره عليها (وَلَكِنَّهَا رَحْمَةٌ) الضمير لبكائه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وإنما أنثه باعتبار الخبر. والمراد أن البكاء بلا صِيَاح رحمة، وبصياح منكر، فكأنه قال: بين بكائي وبكائك فرقٌ، فلا يؤخذ حكم أحدهما من الآخر.
وفيه دليل على جواز البكاء بلا صياح، فإن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - إنما أنكر على أم أيمن - رضي اللَّه عنها - بكاءها مع الصياح، كما تقدم في رواية أحمد.
وهذا محلّ استدلال المصنف -رحمه اللَّه تعالى- به على الترجمة (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -: "المُؤمِنُ بِخَيْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ) يعني أن أحوال المؤمن كلها خير له، سواء كانت سرّاء، أم ضرّاء، إذ يُثاب على كلّ أحواله، ففي السرّاء يُثاب على شكره، وفي الضرّاء يثاب على صبره.
وهذا في معنى ما أخرجه مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من حديث صهيب - رضي اللَّه عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له" (١).
(تُنْزَعُ نَفْسُهُ) ببناء الفعل للمفعول، أي تخرُج روحه (مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ، وَهُوَ يَحْمَدُ اللَهَ -عَزَّ وَجَلَّ-) أي فهو في هذه الحالة في ثواب عظيم، حيث رضي بقضاء ربّه، ولم يَجزَع، بل حمده على ما أصابه، فوَفَّاه أجرَه، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: ١٠]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.