للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ببعض بكاء أهله عليه "إذا كان النوح من سنته، لقول اللَّه تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية [التحريم: ٦] وقال النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -: "كلكم راع، ومسؤول عن رعيته"، فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الخ.

ثانيها: وهو أخصّ من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك، وبه قال المزني، وإبراهيم الحربيّ، وآخرون، من الشافعيه وغيرهم، حتى قال أبو الليث السمرقنديّ: إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي عن الجمهور قالوا: وكان معروفا للقدماء حتى قال طَرَفَة بن العبد [من الطويل]:

إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ … وَشُقِّي عَلَي الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ

واعتُرض بأن التعذيب بسب الوصيّة يُستَحَقّ بمجرّد صدور الوصيّة، والحديث دالّ على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال.

والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلاً.

ثالثها: يقع ذلك أيضًا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك. وهو قول داود، وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقّق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظنّ أنهم يفعلون ذلك.

قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النَّوْح, وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يُعلِمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عُذّب على ذلك عُذِّب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.

رابعها: معنى قوله: "يعذّب ببكاء أهله"، أي بنظير ما يَبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يُعَدِّدُون بها عليه غالبًا تكون من الأمور المنهيّة, فهم يمدحونه بها، وهو يعذّب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يَمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم، وطائفة، واستدل له بما أخرجه الشيخان عن عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنه -، قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وعبد اللَّه ابن مسعود، - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية أهله، فقال: "قد قضى قالوا: لا يا رسول اللَّه، فبكى النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، فلما رأى القومُ بكاء النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بَكَوا، فقال: "ألا تسمعون إن اللَّه لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم … " الحديث.

قال ابن حزم: فصحّ أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان، إذ يَندُبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة اللَّه، وجُوده الذي لم يضعه في الحقّ، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر، وهو يعذّب بذلك.