فإن قيل: فلعلّ عائشة لم تحلف على ظنّ، بل على علم، وتكون سمعته من النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - في آخر أجزاء حياته. قلنا: هذا بعيد من وجهين:
أحدهما: أن عمر، وابن عمر سمعاه - صلى اللَّه عليه وسلم - يقول:"يعذّب ببكاء أهله". والثاني: لو كان كذلك لاحتجّت به عائشة، وقالت: سمعته في آخر حياته - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولم تحتجّ به، إنما احتجّت بالآية. واللَّه أعلم انتهى (١).
(فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ، مَا تُحَدِّثُونَ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ كَاذِبَيْنِ، مُكَذَّبَينِ) اسم مفعول من كذّبه مضعّفًا: إذا نسبه إلى الكذب، تعني أنهما لا يكذبان قصدًا، ولا يَنسُبُهما أحد إلى الكذب (وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ) تعني أن هذا مما أخطأ فيه سمعهما (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ، لَمَا يَشْفِيكُمْ) أي يزيل إشكالكم في هذه المسألة، وهو قوله تعالى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم: ٣٨]، "أن" مخففة من الثقيلة، أدغمت في "لا" النافية، واسمها ضمير مقدر، وخبرها الجملة المنفية، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة"، حيث قال: وَإنْ تُخَفَّفْ "أَن" فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ … وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَة مِنْ بَعْدِ "أَنْ"
والمعنى أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -) يحتمل أن تشدد نون "لكن"، و"رسولُ اللَّه" اسمها، وأن تخفف، وما بعدها مبتدأ وخبر (قَالَ:"إِنَّ اللَهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا، ببُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" زاد في رواية الشّيخين: "وقالت: حسبكم القرآن: {وَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - عند ذلك: واللَهُ {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - شيئًا انتهى.
قال في "الفتح": قوله: قال ابن عباس الخ: أي عند انتهاء حديثه عن عائشة: واللَهُ {هُوَ أَضحَكَ وَأَبكى} أي إن العَبْرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها، فضلا عن الميت. وقال الداوديّ: معناه أن اللَّه تعالى أَذِنَ في الجميل من البكاء، فلا يُعذِّب على ما أذن فيه. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة، أي أن بكاء الإنسان، وضحكه من اللَّه يظهر فيه، فلا أثر له في ذلك انتهى.
وقوله: "ما قال ابن عمر شيئا" قال الطيبي وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة، فسكت مُذعِنا. وقال الزين ابن المنير: سكوته لا يدلّ على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبيّ: ليس سكوته لشكّ طرأ له بعد ما صرّح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلا للتأويل، ولم يتعيّن له محمل يحمله عليه إذ