للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: معناه: اللَّه أعلم بما جبلهم عليه، وطبعهم عليه، فمن خلقه اللَّه تعالى على جِبِلّة المطيعين كان من أهل الجنة، ومن خلقه اللَّه على جِبلّة الكفّار، من القسوة، والمخالفة، كان من أهل النار، وهذا كما قال في غلام الخضر. "طُبع يوم طُبع كافرًا". وهذا الثواب والعقاب ليس مرتّبًا على تكليف، ولا مرتبطًا به، وإنما هو بحكم علمه ومشيئته.

وأما من قال: إنهم في النار مع آبائهم، فمعتمده قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "هم من آبائهم". ولا حجة فيه لوجهين: "أحدهما": أن المسألة علميّة، وهذا خبر واحد، وليس نصّا في الفرض.

"وثانيهما": سلمناه، لكنّا نقول: ذلك في أحكام الدنيا، وعنها سئل، وعليها خُرِّج الحديث، وذلك أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، إنا نُبيِّتُ أهل الدار من المشركين، وفيهم الذراريّ؟، فقال: "هم من آبائهم". يعني في جواز القتل في حال التبييت، وفي غير ذلك من أحكام آبائهم الدنيوية. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أن المسألة علمية الخ" فيه نظر لا يخفى؛ إذ يُفهَم منه أن المسألة الإعتقادية لا تؤخذ من آخبار الآحاد، وهو خلاف الصواب، وقد ذكرناه في غير هذا المحلّ، وإنما الجواب الصحيح مما ذكره هو الوجه الثاني، فتبصّر. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - هذا طرف من حديثٍ ساقه البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى بتمامه في "كتاب القدر" من طريق همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه، كما تُنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جَدْعَاء (٢)، حتى تكونوا أنتم تجَدَعونها؟ "، قالوا يا رسول اللَّه، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".

وأخرج أبو داود عقب حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - بسنده، عن ابن وهب، سمعت مالكًا، وقيل له: إن أهل الأهواء يحتجّون علينا بهذا الحديث -يعني قوله: "فأبواه يهوّدانه، أو يُنصّرانه"- فقال مالك: احتَجَّ عليهم بآخره "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".

قال في "الفتح": ووجه ذلك أن أهل القدر استدلّوا على أن اللَّه فَطَر العباد على الإسلام، وأنه لا يضلّ أحدًا، وإنما يُضل الكافرَ أبواه، فأشار مالك إلى الردّ عليهم


(١) - "المفهم" ج ٦ ص ٦٧٨ - ٦٧٩.
(٢) - أي مقطوعة الأذن.