للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ظاهره التخليد الذي لا انقطاع له بوجه، وهو محمول على من كان مستحلّا لذلك، ومن كان متعمّدًا لذلك كان كافرًا، وأما من قتل نفسه، وهو غير مستحلّ، فليس بكافر، بل يجوز أن يعفو اللَّه عنه، قال: ويجوز أن يراد بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" تطويل الآمال، ثم يكون خروجه من النار من آخر من يخرج من أهل التوحيد، ويَجري هذا مَجرى المثل، فتقول العرب: خلّد اللَّه ملكك، وأبّد أيامك، ولا أُكلّمك أبد الآبدين، ولا دهر الداهرين، وهو ينوي أن يكلّمه بعد أزمان، ويَجري هذا مجرى الإعياء في الكلام انتهى (١).

وقال في "الفتح": وقد تمسّك بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" المعتزلة، وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنّة عن ذلك بأجوبة:

منها: توهيم هذه الزيادة، قال الترمذيّ بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - فلم يذكر: "خالدًا مخلّدًا"، وكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرح، عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -، قال: وهو أصحّ، لأن الروايات صحّت أن أهل التوحيد يُعذّبون، ثم يُخرجون منها، ولا يُخلّدون.

وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحلّه، فإنه يصير باستحلاله كافرًا، والكافر مخلّد بلا ريب. وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة. وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرّم اللَّه على الموحّدين، فأخرجهم من النار بتوحيدهم.

وقيل: التقدير مخلّدًا فيها إلى أن يشاء اللَّه. وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا حقيقة الدوام، كأنه يقول: يُخلّد مدةً معينةً، وهذا أبعدها انتهى (٢).

(وَمَنْ تَحَسَّى) آخره ألف، أي شرب بتمهّل، وتجرّعه (سُمًّا) بتثليث السين المهملة، والفتح أفصح، وتشديد الميم. قال في "المصباح": السمّ: ما يَقتل، وبالفتح أكثر، وجمعه سُموم، مثل فَلْس، وفُلُوس، وسِمَام أيضًا، مثل سَهْم، وسِهَام، والضمّ لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم انتهى.

وقال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والسمّ دواء قاتل، يُطرح في طعام، أو ماء، فينبغي أن يُحمل "تحسّى" على معنى أدخل في باطنه، ليعمّ الأكل والشرب جميعًا انتهى (٣).

(فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةِ -ثُمَّ انْقَطَعَ عَلَيَّ شَيْءٌ، خَالِدٌ يَقُولُ-) ولفظ "الكبرى": "ثم انقطع عليّ شيء


(١) - "المفهم" ج ١ ص٣١٠ - ٣١١ "كتاب الإيمان" - "باب من قتل نفسه بشيء عُذّب به".
(٢) - "فتح" ج ٣ ص ٥٩٣ - ٥٩٤. "كتاب الجنائز" - "باب ما جاء في قاتل النفس" رقم الحديث ١٣٦٣.
(٣) - "شرح السنديّ" ج ٤ ص ٦٦.