للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

شهدته ما دُفن إلا حيث مات. وكان دُفن (١) بالحبشيّ، مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلاً أو نحوها.

قال أبو عمر: قد أجمع المسلمون كافّة بعد كافّة على جواز نقل موتاهم من دورهم إلى قبورهم، فمن ذلك البقيع مقبرة المدينة، ولكلّ مدينة جبّانة يتدافن فيها أهلها، فدلّ ما ذكرناه من الإجماع على فساد نقل من نقَلَ: "تدفن الأجساد حيث تُقبض الأرواح"، إلا أن يكون أراد البلد والحضرة، وما لا يكون سفرًا. واللَّه أعلم.

وليس في أمر رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - بردّ القتلى يوم أحد إلى مضاجعهم ما يُردّ ما وصفنا. والحديث المأثور: "ما دُفن نبيّ إلا حيث قُبض" دليل، ووجهٌ على تخصيص الأنبياء بذلك، واللَّه أعلم.

وأما حديث عائشة في أخيها بذلك -واللَّه أعلم- لأنها أرادت دفنه بمكة؛ لزيارة الناس القبور بالسلام عليهم، والدعاء لهم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ذكر ابن البرّ قصة عائشة، أن موت أخيها كان بمكة، ثم دفن بالحبشيّ، وخالفه غيره، فذكر أنه مات بالْحُبشيّ، ودُفن بمكّة، والظاهر أن الصواب ما قاله غيره، فقد ساق القصّة ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بسند صحيح، فقال: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة، يقول: قالت عائشة: لو حضرت عبد الرحمن -تعنى أخاها- ما دُفن إلا حيث مات، وكان مات بالْحُبشيّ، فدفن بأعلى مكة، والحبشيّ قريب من مكة. انتهى (٢).

قال أبو عمر: وقد نُقِل سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد من العقيق، ونحوه إلى المدينة، وذلك بمحضر جماعة من الصحابة، وكبار التابعين، من غير نكير، ولعلّهما قد أوصيا بذلك، وما أظنّ إلا وقد رويت ذلك.

وليس في هذا الباب -أعني نقل الموتى- بدعةٌ، ولا سنّة، فليفعل المؤمن ذلك ما شاء، وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (٣).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي أن نقل الشهيد ممنوع، لصحّة أحاديث الباب، وأما غيره، فالأولى دفنه في محل موته، لأنه المعهود في زمن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، كما تقدم في كلام ابن المنذر، وإن نُقِل لغرض من الأغراض، فلا منع، ما لم يُخف تغيّره، لما تقدّم من أنّ سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد - رضي اللَّه عنهما - نقلا من العقيق إلى المدينة بمحضر من


(١) - سيأتي الكلام عليه قريبا.
(٢) - "الأوسط" ج ٥ ص ٤٦٤.
(٣) - "الاستذكار" ج ٨ ص ٢٩٣ - ٢٩٥.