"قَدِم النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - المدينة، ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كلّ شهر، حتى نزل:{شَهْرُ رَمَضَانَ}، فاستكثروا ذلك، وشقّ عليهم، فكان من أطعم مسكينًا كلّ يوم ترك الصيام، ممن يُطيقه، ورخص لهم في ذلك، ثم نسخه:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، فأُمروا بالصيام".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وإذا تقرّر أن الإفطار والإطعام كان رخصة، ثم نسخ لزم أن يصير الصيام حتمًا واجبًا، فكيف يلتئم مع قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، والخيريّة لا تدلّ على الوجوب، بل المشاركة في أصل الخير؟.
أجاب الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بأن المعنى: فالصوم خير من التطوّع بالفدية، والتطوّع بها كان ستة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبًا، أي لا يكون شيء خيرًا من السنة إلا الواجب. كذا قال، ولا يخفى بعده، وتكلّفه. ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخيّر، من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم، فنصّت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخيّر أفضل من بعض لا إشكال فيه. واتفقت هذه الأخبار على أن قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ.
وخالف في ذلك ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -، فذهب إلى أنها محكمة، لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه، كما يأتي في الرواية التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سلمة بن الأكوع - رضي اللَّه عنه - هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-٦٣/ ٢٣١٦ - وفي "الكبرى" ٦٣/ ٢٦٢٥ و ٢٥/ ١١٠١٧. وأخرجه (خ) في "التفسير" ٤٥٠٧ (م) في "الصيام" ١١٤٥ (د) في "الصوم" ٢٣١٥ (ت) في "الصوم" ٧٩٨ (الدارميّ) في "الصوم" ١٧٣٤. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ثبوت النسخ في القرآن، وقد أجمعت الأمة على ذلك، ودلّ عليه قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}(ومنها): التدرّج في تشريع الصوم، تسهيلًا على المكلّفين، فكان أول ما شُرع من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يُطعم أطعم وأفطر، حتى إذا أَلِفُوه، وسهل عليهم نزل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ