والحكمة في منع الساعي ذلك أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء في مال الأغنياء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامحهم الشرع بما يضنّون به، ونهى الساعي عن أخذه، فيحرم عليه أخذها، بل يأخذ الوسط، ويحرم على ربّ المال إخراج شرّ المال، نعم لو رضي المالك بإخراج الكريمة قُبلت منه.
وفي وجه عند الشافعية: أن الرجل لا تؤخذ؛ لأنها لقرب عهدها بالولادة مهزولة، والهزال عيب. وفي وجه آخر: أنه لا تقبل الكريمة إذا تبرّع المالك بها للنهي المذكور، وهذان الوجهان فاسدان، كما قال العلامة ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى- (١).
وقوله:"واتق دعوة المظلوم": أي تجنّب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم.
وقال بعضهم: عطف "واتق" على عامل "إياك" المحذوف وجوبًا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرّض للكرائم. وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم. ولكنه عمم إشارة إلى التحرّز عن الظلم مطلقًا.
وقوله:"فإنها ليس بينها وبين اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- حجاب" أي ليس لها صارف يصرفها، ولا مانع، والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصيًا، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -. عند أحمد مرفوعًا:"دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه". وإسناده حسن.
وقال الطيبيّ: قوله: "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاصّ من أخذ الكرائم، وعلى غيره. وقوله:"فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب" تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السلطان متظلّمًا، فلا يُحجب.
قال ابن العربيّ: إلا أنه وإن كان مطلقًا، فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يُعجّل له ما طلب، وإما أن يدّخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قُيّد قوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل: ٦٢] بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} الآية [الأنعام: ٤١] انتهى.
[تنبيه]: كتب ابن الملقّن في "شرح العمدة" على قوله: "ليس بينها وبين اللَّه حجاب": ما نصّه: الحجاب يقتضي الاستقرار في المكان، والباري منزّه عن ذلك، إلا أنه - صلى اللَّه عليه وسلم -كان يُخاطب العرب بما تَفهم. والمراد أنها مقبولة على كلّ حال، لا أن للباري