(وَ) قرأ أيضًا الآية التي في سورة الحشر، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أمرٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين بتقواه، وهو يشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: ١٨] أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعَرْضكم على ربّكم.
وسبب قراءته - صلى اللَّه عليه وسلم - هذه الآية أنها أبلغ في الحثّ على الصدقة، كما أن الآية المتقدّمة أبلغ في الترابط بين أجناس بني آدم. واللَّه تعالى أعلم.
(تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ) قال أبو البقاء الْعُكبَريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "إعراب الحديث": يحتمل أحد وجهين:
[أحدهما]: أن يكون أراد الشرط، أي إن تصدّق رجلٌ، ولو بشيء حقير من ماله أُثيب، وحُذف حرف الشرط وجوابه للعلم به، كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: ١١٨، ١١٩] تقديره: إن أقمتَ على الطاعة.
[والوجه الثاني]: أن يكون الكلام محمولاً على الدعاء، فكأنّه قال: رَحِم اللَّه امرأً تصدّق، كما قالوا: امرءًا اتقى اللَّه، أي رحم اللَّه، وجعل الفاعل، وهو قوله: "رجلٌ" مفسرًا للمنصوب المحذوف.
ويحتمل وجهًا ثالثًا: وهو أن يكون على الخبر، أي تصدّق رجلٌ من غيركم بكذا وكذا، فأُثيب، والغرض منه حثّهم على الصدقة، وأنّ غيرهم تصدّق بمثل ذلك، فأُثيب، فحكمهم كحكمه انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها العكبريّ فيها بعدٌ، وتكلّفٌ لا يخفى.
وقيل: هو مجزومٌ بلام أمر مقدّرة، أصله ليتصدّق، وهذا الحذف مما جوّزه بعض النحاة.
وفيه أنّ حقّه حينئد أن يكون يتصدّق -بياء تحتيّة، بعدها تاء فوقيّةٌ- ولا وجه لحذفها.
فالصواب عندي أن صيغته صيغة خبرٍ ومعناه الأمر، ولا يقال: إن كونه خبرًا لا يساعده قوله: "ولو بشقّ تمرة"؛ لأنّنا نقول: إنما يتوجه ذلك لو كان خبرًا معنًى أيضًا، وأما إذ كان أمرًا معنًى فلا يتوجّه هذا الاستشكال.
والحاصل أنّ هذا خبر بمعنى الأمر، أي ليتصدّق، وإنما عبّر بصيغة الخبر؛ حثًّا
(١) - راجع "إعراب الحديث النبويّ" للعكبريّ ص ١٥٨ - ١٥٩.