للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال الطبريّ: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم؛ لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، ولم يحرّموه مع ذلك.

وقال أبو عليّ الكرابيسيّ: لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبةً، من الصحابة، ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم بينهم اختلافًا، وقد كره ذلك قوم، منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرّمه.

وقال المهلّب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، فأرادوا أن يجري الأمر على الأصل الذي وضعه اللَّه لنبيه - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه، فيتحيّل على أموال الناس.

وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء، إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنما تركه تورُّعًا، وأما إذا كانت هناك شبهة، فالأولى الترك جزمًا، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختُلِف إذا كان الغالب حرامًا. وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا، لا بدّ منها.

قال الحافظ: وقد جر القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذّر إزالة ذلك، واللَّه المستعان انتهى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن أخذ الراتب على العمل جائزٌ مطلقًا، على الوجه الذي سبق تقريره آنفًا، ولا ينافي ذلك إخلاص العمل للَّه تعالى، كما اتّضح ذلك من حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

٢٦٠٦ - (أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ, عَنِ الزُّبَيْدِيِّ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ, أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ, أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ, أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فِي خِلَافَتِهِ, فَقَالَ: لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِى مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً, فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ رَدَدْتَهَا؟ , فَقُلْتُ: بَلَى, فَقَالَ عُمَرُ - رضي اللَّه عنه -: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ , فَقُلْتُ: لِي أَفْرَاسٌ, وَأَعْبُدٌ, وَأَنَا بِخَيْرٍ, وَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ, فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْتَ, كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم - يُعْطِينِي الْعَطَاءَ, فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ


(١) - راجع "الفتح" ج ١٥ ص ٥١ - ٥٦.