للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

التكرار؟، والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقّف فيما زاد على مرّة على البيان، فلا يُحكم باقتضائه، ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يَستدلّ به من يقول بالتوقّف؛ لأنه سأل، فقال: "أكلّ عام؟ "، ولو كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يسأل، ولقال له النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -: لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا. وقد يُجيب الآخرون بأنه سأل استظهارًا واحتياطًا. وقوله: "ذروني ما تركتكم" ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار.

وقال الماورديّ: ويحتمل أنه إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر؛ لأن الحجّ في اللغة قصد فيه تكررٌ، فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق، لا من مطلق الأمر.

قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ها هنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لَمّا كان قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: ٩٧] يقتضي تكرار قصد البيت بحكم اللغة، والاشتقاق، وقد أجمعوا على أن الحجّ لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة؛ لأنه لا يجب قصده لغير حجّ وعمرة بأصل الشرع انتهى (١).

وقال القاري: والأظهر أن مبنى السؤال قياسه على سائر الأعمال، كالصلاة، والصوم، والزكاة، ولم يدر أن تكراره كلّ عام بالنسبة إلى جميع المكلّفين من المحال، كما لا يخفى انتهى (٢).

(فَسَكَتَ) - صلى اللَّه عليه وسلم - (عَنْهُ) أي عن ردّ الجواب عن سؤاله (حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا) أي حتى أعاد الرجل السائل الكلمة التي قالها ثلاث مرّات.

قال التوربشتيّ: إنما سكت النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى؛ لأن الرسول - صلى اللَّه عليه وسلم - إنما بُعث لبيان الشريعة، فلم يكن ليسكت عن بيان أمر عَلِم أن بالأمة حاجةً إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدُّمٌ بين يدي رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وقد نُهُوا عنه، بقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، والإقدام عليه ضرب من الجهل، وشرٌّ، فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار - صلى اللَّه عليه وسلم - بقوله: "لو قلت: نعم لوجبت".

ثم لَمّا رآه - صلى اللَّه عليه وسلم - لا ينزجر، ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرّح به (٣) (فَقَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ) أي فرضًا وتقديرًا، ولا يبعد أن يكون سكوته - صلى اللَّه عليه وسلم - انتظارًا للوحي.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان له أن يجتهد


(١) - شرح صحيح مسلم للنوويّ ج ٩ ص ١٠٥.
(٢) - "المرقاة شرح المشكاة" ج ٥ ص ٣٧٩.
(٣) - راجع "المرعاة" ج ٨ ص ٢٩٦ و"المرقاة" ج ٥ ص ٣٨٠.