(مَا تَرَكتُكُمْ) أي لأني مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبيّنه لكم لا مَحَالَةَ، ولا حاجة إلى السؤال.
وقال السنديّ:"ما" مصدرية ظرفيّة، أي مدّة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبينُ لكم بنفسي. انتهى (١).
وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ما تركتكم" أي مدّة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. وإنما غاير بين اللفظين؛ لأنهم أماتوا الماضي، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يَذَرُ"، وفعل الأمر، وهو "ذَرّ"، ومثله "دَعْ"، و"يَدَعُ"، ولكن سمع "وَدَعَ"، كما قُرىء به في الشاذّ في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}[الضحى: ٣]، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عَبْلَة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]:
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنّن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني.
والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو تحريمه، وعن كثرة السؤال؛ لما فيه غالبًا من التعنّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَلُ، فقد يؤدّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة.
وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ذروني ما تركتكم": يعني لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مقيّدَةً بوجهٍ مّا ظاهرٍ، وإن كانت صالحة لغيره، وبيانُ ذلك: أن قوله: "فحُجّوا"، وإن كان صالحًا للتكرار، فينبغي أن يُكتَفَى بما يصدُق عليه اللفظ، وهو المرّة الواحدة، فإنها مدلولةُ اللفظ قطعًا، وما زاد عليها يتغافل عنه، ولا يُكثَر السؤال فيه؛ لإمكان أن يكثر الجواب المترتّب عليه، فيضاهي ذلك قصّة بقرة بني إسرائيل، التي قيل لهم فيها: اذبحوا بقرة، فلو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ، وبادروا إلى ذبح بقرة، أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين، لكن لما أكثروا السؤال كثُر عليهم الجواب، فشدّدوا، فشُدّد عليهم، فذُمّوا على ذلك، فخاف النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - منه مثل هذا على أمته، ولذلك قال:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم"، وعلى هذا يُحمل قوله:"فإذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما استطعتم"، يعني بشيء مطلق، كما إذا قال: صم، أو صلّ، أو تصدّق. فيكفي من ذلك أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، فيصوم يومًا، ويصلّي ركعتين، ويتصدّق بشيء يُتصدّق بمثله، فإن قيّد شيئًا من ذلك بقيود، ووصفه بأوصاف