قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وعلى تقدير صحته فليس دليلاً على مسألتنا هذه، فإنه لم يقل: من أهلّ منها، وإنما قال:"الحجة منها أفضل الخ"، وهذا لا يستلزم الإحرام منها، وإنما هو بيان لفضل الحجّة من تلك البلدة، فتنبّه.
فتبيّن بهذا أنه لا يصحّ في إباحة تقديم الإحرام على المواقيت شيء.
والحاصل أنه ليس لمن قال بإباحة تقديم الإحرام على الميقات دليلٌ، لا من نصّ، ولا من إجماع، بل هي اجتهادات ممن فعله، تعارض ما صحّ عن الشارع الحكيم تحديده، مع أنه قد ثبت إنكار غيرهم عليهم فعلهم ذلك، فلا يُعارض به ما صحّ عن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، إذ الحجة في فعله، وقوله، لا في فعل غيره، أو قوله.
فالمذهب الحقّ هو ما ذهب إليه من قال بعدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت المحدّدة، كإسحاق، والبخاريّ، وداود الظاهريّ، وابن حزم، كما تقدم، كما أنه لا يجوز تقديمه على المواقيت الزمانيّة بالإجماع، فكذا هذا، إذ لا فرق بينهما.
وما أحسن ما قال الشاطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "الاعتصام" -١/ ١٦٧ - ومن قبله الهرويّ في "ذمّ الكلام" عن الزبير بن بكار: قال: حدّثني ابن عُيينة، قال: سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد اللَّه، من أين أُحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فقال: إني أريد أن أُحرم من المسجد، من عند القبر، قال: لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: فأيّ فتنة في هذه؟، إنما هي أميالٌ أزيدها، قال: وأيّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، إني سمعت اللَّه يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: ٦٣] انتهى.
فالواجب على المسلم أن يحرص على موافقة حجه، وعمرته السنة الثابتة؛ ليقعا له على الوجه المطلوب شرعًا، ولا يخالف بعلّة أن فلانًا قال كذا، وأن فلانًا فعل كذا، إذ الحجة هو الذي صحّ عمن قال اللَّه تعالى في حقّه:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".