للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

المطهرة بعضها أوامر، وبعضها نواهٍ، والتعبّد في النواهي ليس إلا بالكفّ، فيلزمه أن يطرد هذا التشكيك الركيك في شطر الشريعة.

وأما إيجاب النيّة فقد عرّفناك غير مرّة أن كلّ عمل يحتاج إلى النيّة، والعمل يشمل الفعل، والترك، والقول، والفعل، وعرّفناك أن ظاهر الأدلة يقتضي أن النية شرط في جميع ما تقدّم من العبادات؛ لدلالة أدلّتها على أن عدمها يؤثّر في العدم، وهذا هو معنى الشرط عند أهل الأصول.

وأما كون النية تقارن التلبية، فقد ثبت عن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - في دواوين الإسلام من غير وجه أنه أهلّ ملبيًّا، وقد قدّمنا لك أن أفعاله، وأقواله في الحجّ محمولة على الوجوب لأنها بيان لمجمل القرآن، وامتثال لأمره - صلى اللَّه عليه وسلم - لأمته أن يأخذوا عنه مناسكهم، فمن ادعى في شيء منها أنه غير واجب، فلا يقبل منه ذلك إلا بدّليل.

وأما كونها تقارن التلبيد، فلما ثبت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - في عام الحديبية "أنه لما كان بذي الحليفة قلّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة" انتهى (١).

وقال العلامة ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى-: اتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير تلبية؟ فقال مالك، والشافعيُّ: تجزئ النية من غير تلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحجّ كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة، إلا أنه يجزئ عنده كلّ لفظ يقوم مقام التلبية، كما في افتتاح الصلاة عنده انتهى.

وقال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: يستحبّ للإنسان النطق بما أحرم به؛ ليزول الالتباس، فإن لم ينطق بشيء، واقتصر على مجرّد النية كفاه في قول إمامنا، ومالك، والشافعيّ. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى ينضاف إليها التلبية، أو سوق الهدي؛ لحديث خلاّد بن السائب الأنصاري، عن أبيه، عن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، قال: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". رواه المصنّف في الباب التالي وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. انتهى (٢).

وقال صاحب "المرعاة": قد تواترت الروايات المصرّحة بأنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أحرم من ذي الحليفة، وسمى، وعيّن ما أحرم به، من إفراد، أو قران، أو تمتّع، واتفقت على تعيين النسك في التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام، وإن اختلفت في نوعه، وصرّحت أيضًا بأنه - صلى اللَّه عليه وسلم - لبّى عند ذلك، كما ورد في الروايات، وقال: "خذوا عني مناسككم"، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الإحرام، والتلبية، والتسمية، وهذا القدر


(١) - راجع "السيل الجرار" ٢/ ١٧١.
(٢) - راجع "المغني" ٥/ ٩١ - ٩٢.