للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

انتهى ما ذكره النوويّ (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكروه من تأويل هذا الحديث غير صحيح، والصواب إثبات صفة الدنوّ للَّه سبحانه وتعالى حقيقة، على ما يليق بجلاله، وإنما أداهم إلى هذا التأويل قياسهم الغائب بالشاهد، فظنوا أنهم لو أثبتوا ذلك له لزم تشبيهه سبحانه بخلقه، وهذا زعم باطل، فاللَّه سبحانه له الصفات العلى، لا تشبه الصفات، كما أن له ذات لا تشبه الذوات، فالمخلوق له ذاته، وصفاته الخاصّة به، والخالق له ذاته، وصفاته اللائقة به، ولا يلزم من هذا الإثبات تشبيه أصلاً، وقد ذكرنا غير مرّة أن مذهب السلف قاطبة في مثل هذا الحديث أن يؤمنوا به كما جاء، ويفوّضون الكيفية إلى اللَّه تعالى، فيؤمنون بأن للَّه تعالى دنوًّا حقيقيًّا، على ما يليق بجلاله، وكذلك له نزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وأن له استواءً على العرش كما يليق به، وغير ذلك مما أثبته لنفسه من الصفات، أو أثبته له رسوله - صلى اللَّه عليه وسلم - فيما صحّ عنه، وأن الدنوّ، والنزول، والاستواء معان معلومة لكلّ من يعرف كلام العرب، فهي ثابتة له تعالى، وإنما المجهول كيفيتها.

فالحقّ أن اللَّه سبحانه وتعالى له الدنوّ، والنزول، والاستواء، وغيرها من الصفات الثابتة له حقيقة، لا مجازًا، على كيفية يعلمها هو، لا نعلمها، وقد أشبعت الكلام على هذا البحث في غير هذا الموضع من هذا الشرح، وللَّه الحمد. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ) أي يفاخرهم بهم. وقال القرطبيّ: أي يثني عليهم عندهم، ويعظمهم بحضرتهم، كما في الحديث الآخر: "يقول للملائكة: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعْثا غُبْرًا، أُشهدكم أني قد غفرت لهم" (٢). قال: وكأن هذا -واللَّه أعلم- تذكير للملائكة بقول: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: ٣٠] وإظهار لتحقيق قوله تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠] انتهى كلام القرطبيّ (٣).

(وَيَقُولُ) سبحانه وتعالى (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) "ما" استفهامية، والاستفهام هنا للتعجّب، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ}.

قال القرطبيّ: أي إنما حملهم على ذلك حتى خرجوا من أوطانهم، وفارقوا أهاليهم، ولذّاتهم، ابتغاء مرضاتي، وامتئال أمري انتهى.


(١) - "شرح صحيح مسلم" ٩/ ١٢١.
(٢) - رواه أحمد في "مسنده" ٢/ ٢٢٤ و٣٠٥.
(٣) - "المفهم" ٣/ ٤٦١.