للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أُمِر المسلمون، وهم أقلّ من العُشْر بقتال الباقين لشقّ عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسولَ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وكانوا نيّفًا وثمانين، قالوا: يا رسول اللَّه ألا نَميل على أهل الوادي -يعنون أهل منى ليالي منى- فنقتلهم؟، فقال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إني لم أُومر بهذا"، فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - من بين أظهرهم، وهمّوا لقتله، وشرّدوا أصحابه شَذَرَ مَذَرَ، فذهب

منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة، فلما استقرّوا بالمدينة وافاهم رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام، ومَعْقِلاً يلجئون إليه، شَرَع اللَّهُ جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أولَ ما نزل في ذلك (١).

(فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ) قال السنديّ: الظاهر أنه من كلام أبي بكر، بتقدير "قال أبو بكر"، إذ ابن عباس كان صغيرًا، ولم يكن معه - صلى اللَّه عليه وسلم - يومئذ انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ فهمًا، قد جاء مصرّحًا به عند الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-، ولفظه: "فقال أبو بكر لقد علمت أنه سيكون قتال" (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَهِيَ أَوَّلُ آيَةِ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ) قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّهَ تعالى- في "تفسيره": قال مجاهد، والضحّاك، وغير واحد من السلف، كابن عبّاس، وعروة، بن الزبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيّان، وقتادة، وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد. واستدلّ بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنيّة انتهى (٢).

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في تفسير "سورة البقرة"، في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} الآية [البقرة: ١٩٠]: ما نصّه: هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال؛ ولا خلاف في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [فصّلت: ٣٤]، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} الآية [المائدة: ١٣]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: ١٠]، وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: ٢٢]، وما كان مثله، مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أُمر بالقتال، فنزل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}. قاله الربيعِ بن أنس وغيره. وقال أبو بكر الصديق - رضي اللَّه عنه -: إن أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامّة، لمن قاتل، ولمن لم يقاتل من المشركين انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- (٣).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن أول آية نزلت في القتال آية


(١) - "تفسير ابن كثير" ٣/ ٢٣٥.
(٢) - "تفسير ابن كثير" ٣/ ٢٣٥ - ٢٣٦.
(٣) - "الجامع لأحكام القرآن" ٢/ ٣٤٧.